top of page
Image by Annie Spratt
كَتَبَهُ

فلان بن علان

عنوان تجريبي

تاريخ عشوائي

تجربة سرية لتعليم الأشجار كتابة الشعر باستخدام صوت المطر فقط
تجربة سرية لتعليم الأشجار كتابة الشعر باستخدام صوت المطر فقط
كان الصباحُ يتكوّر مثل حرفٍ خجول على حافة الصفحة البيضاء، والضباب ينسج خيوطه الرقيقة فوق حواف النهر، كأنّه يحاول أن يخفي سرًا قديمًا خُطَّ في الماء منذ أزمنةٍ لا تُعرف بدايتها. في ذلك الركن القصي من العالم، حيث لا يسمعك أحد سوى الطيور التي استيقظت مبكّرًا، والريح التي تتهادَى على أطراف الأغصان، كان هناك مقعدٌ خشبيٌّ يبدو كأنه ينتظر أحدًا طال غيابه. سكنت فوقه آثار أقدام ليست لأحد بالتحديد، لكنها تشي بأن قلبًا مرّ من هنا يومًا ما، جلس، فكّر، وربما بكى. في مثل هذه اللحظات، لا تحتاج السماء إلى كثير من الألوان؛ يكفي أن تُرسل خيطًا رقيقًا من الضوء، يلامس وجه الأرض كتحيةٍ عابرة، فيردُّ عليه الصباحُ بابتسامةٍ تتفتح على مهل، كما تتفتح الأزهار حين تدرك أن لا أحد يراقبها. الهواء هادئ، لكنه ليس صامتًا؛ ففي كل نسمةٍ حكاية، وفي كل ورقةٍ ترتجف سرٌّ لا يُقال. يقولون إن الأماكن تحفظ الأرواح التي مرت بها، وإن المقاعد الخشبية تعرف أصحاب الذكريات أكثر مما يعرفهم البشر. وربما لهذا السبب لا تزال تلك القطعة من العالم تعيش على ذكرى رجلٍ كان يأتي مع الفجر، يحمل معه دفترًا ذا أوراقٍ صفراء، وكوب قهوةٍ يتصاعد منه البخار، كأنّه روحٌ تبحث عن هواءٍ أوسع. لم يكن أحد يعرف اسمه، ولا من أين أتى، لكنه حين يجلس على المقعد، يبدو وكأن المكان كله يعرفه جيدًا. كان يحدّق طويلًا في الأفق، كأنّه ينتظر شيئًا لا يأتي، أو يبحث عن شيء لا يُرى. وفي اللحظة التي تبدأ الشمس فيها بالصعود، كان يقلب صفحات الدفتر، يكتب شيئًا لا نعرف ماهيته، ثم يبتسم ابتسامةً خفيّةٍ، وكأنه وجد ما يبحث عنه. يقولون إنّه لم يكن شاعرًا، ولا كاتبًا، بل فقط رجلًا يؤمن أن للكلمات أرواحًا، وأنّها أحيانًا تهرب، ولا تعود إلا إذا أحسّت بالأمان. كان يترك صفحاتٍ فارغةٍ عمدًا، ويقول إن الفراغ ليس نقصًا، بل مساحةٌ سرّيةٌ لتتنفس الكلمات حين تتعب من المعنى. وربما لهذا، كان المكان الذي يجلس فيه يبدو ممتلئًا رغم فراغه، حيًّا رغم الصمت، مليئًا بما لا يُقال أكثر مما يُقال. وفي ليلةٍ من ليالي الصيف، حين كانت النجوم تتدلّى مثل مصابيح صغيرة فوق ظلال الأشجار، جلس الرجل ذاته، ووضع دفتره، لكنّه لم يكتب هذه المرّة. اكتفى بأن أغلق عينيه، وكأنه يحاول أن يصغي إلى شيءٍ لا يُسمع. كانت الريح تمرّ سريعة، تحمل روائح بعيدة، وحركات الغيوم فوق الماء كانت تُشبه رقصةً هادئةً بلا موسيقى. لم يعرف أحد ما الذي حدث في تلك الليلة، لكنهم في الصباح وجدوا المقعد فارغًا، والدفتر على سطحه مفتوحًا على صفحةٍ لا شيء فيها سوى سطرٍ واحد: أحيانًا، تظهر الحقيقة في الفراغ. منذ ذلك الوقت، صار المكان يبدو مختلفًا. لم يعد مجرد ركنٍ هادئٍ على ضفاف النهر، بل صار أشبه بذاكرة، أو ربما نافذةٍ صغيرةٍ تُطل على جزءٍ خفي من العالم. الذين يمرون به يقولون إن الهواء هناك يشبه الهمس، وإن الضوء يبدو أكثر رقة، وإن المقاعد الخشبية تبدو وكأنها تنبض. البعض يقسم أنه رأى الدفتر نفسه، وقد صار قديمًا أكثر، لكنه لا يزال مفتوحًا على تلك الصفحة، وفي بعض الأحيان، تظهر على هامشه كلماتٌ جديدة، لا يعرفون مصدرها، لكنها تشبه كثيرًا صوت الصمت حين يحكي. ومع مرور الوقت، صار المكان ملاذًا للذين يضيعون داخل الأسئلة، ويبحثون عن إجابات لا تُكتب بالحروف. يأتون ويجلسون، لا يتكلمون كثيرًا، لكنّ وجوههم تتغيّر حين يغادرون، وكأنهم وجدوا شيئًا لا يعرفونه، أو عرفوا شيئًا لا يستطيعون قوله. ربما كانوا يؤمنون، كما آمن الرجلُ الذي رحل، أن الأشياء الأجمل في العالم لا يمكن رؤيتها بالعين، بل تُحسّ بالقلب، وأن المعنى الحقيقي ليس في الكلمة ذاتها، بل في المسافة التي تقع بين الكلمة والصمت. كان الصباح يتكرر، والسماء تغيّر ثوبها كل يوم، لكن شيئًا واحدًا ظلّ ثابتًا: المقعد الخشبي ينتظر، والنهر يروي، والدفتر يفتح صفحته، والفراغ يظلّ يتنفس. وكلّما حاول أحدهم أن يفسّر ذلك، ابتسم المكان بابتسامةٍ خفيفة، وكأنّه يقول: ليس كل ما يُفهم يُقال، وليس كل ما يُقال يُكتب. وفي نهاية الأمر، أدرك الجميع أن الفراغ ليس شيئًا نملؤه، بل مساحة نتركها كما هي، لعلها تحمل ما لا نستطيع حمله، أو تقول ما لا نستطيع قوله. ولهذا، صار العابرون يمرّون، يتركون ورقة، أو حرفًا، أو حتى نفسًا هادئًا، كأنهم يقدّمون هدية صغيرة لذلك الصمت الكبير الذي يعيش هناك.
يمكنك مشاركة المقال من هنا:
مقال ضياء زاد
مقال ضياء زاد
ضياء زاد

انهيار مؤتمر الحكماء بعد اكتشاف أن الزمن مجرد موظف متقاعد من المستقبل

فلسفة

١٢ أغسطس ٢٠٨٠

video_6038499.png
9087619.png

معروضات لم تُلْمس، وحكايات لم تُعاش

همس

٨ أغسطس ٢٠٣٠

9087619.png

وجوه تتبدّل مع كل صباحٍ دون وداع

مقال

١٢ يونيو ٢٠٤٠

9087619.png

عداء بيِّن وتقدير دفين

جوَّاب

٤ أبريل ٢٠٢٤

انضم إلى نشرة "الحصاد" البريدية!

باشتراكك في نشرة "الحصاد" البريدية سيصلك بشكل دوري كل جديد من منشور المقالات والموضوعات والبودكاست والأخبار والمزيد من الحصريات

(القائمة محدودة)

شكرا على اشتراكك!

جميع الحقوق محفوظة لصالح ضياء زاد - 2025 DiaaZad ©

bottom of page